فصل: القسم الخامس من المعاظلة: أن ترد صفات متعددة على نحو واحد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.القسم الأول: أدوات الكلام:

الأول منها يختص بأدوات الكلام نحو من وإلى وعن وعلى، وأشباهها، فإن منها ما يسهل النطق به إذا ورد مع أخواته ومنها ما لا يسهل، بل يرد ثقيلاً على اللسان، ولكل موضع يخصه من السبك.
فمما جاء منه قول أبي تمام:
إلى خالدٍ راحت بنا أرحبيةٌ ** مرافقها من عن كراكرها نكب

فقوله من عن كراكرها من الكلام المتعاظل الذي يثقل النطق به، على أنه قد وردت هاتان اللفظتان، وهما من وعن، في موضع آخر فلم يثقل النطق بهما، كقول القائل: من عن يمين الطريق، والسبب في ذلك أنهما وردتا في بيت أبي تمام مضافتين إلى لفظة الكراكر، فثقلت منهما وجعلتهما مكروهتين كما ترى، وإلا فقد وردتا في شعر قطري بن الفجاءة فكانتا خفيفتين، كقوله:
ولقد أراني للرماح دريئةً ** من عن يميني مرةً وأمامي

والأصل في ذلك راجع إلى السبك، فإذا سبكت هاتان اللفظتان أو ما يجري مجراهما مع ألفاظ تسهل منهما لم يكن بهما من ثقل، كما جاءتا في بيت قطري، وإذا سبكتا مع ألفاظ تثقل منهما جاءتا كما جاءتا في بيت أبي تمام.
ومن هذا القسم قول أبي تمام أيضاً:
كأنه لاجتماع الروح فيه له ** في كل جارحةٍ من جسمه روح

فقوله في بعد قوله فيه له مما لا يحسن وروده.
وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي:
وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ** سبوحٌ لها منها عليها شواهد

فقوله لها منها عليها من الثقيل الثقيل الثقيل.
وكذلك قوله:
تبيت وفودهم تسري إليه ** وجدواه التي سألوه اغتفار

فخلفهم برد البيض عنهم ** وهامهم له معهم معار

وقوله وهامهم له معهم مما يثقل النطق به، ويتعثر اللسان فيه، لكنه أقرب حالاً من الأول.
ومن الحسن في هذا الموضع قول أبي تمام:
دارٌ أجل الهوى عن أن لم ألم بها ** في الركب إلا وعيني من منائحها

فقوله عن أن في هذا البيت من الخفيف الحسن الذي لا بأس به.

.القسم الثاني: تكرير الحروف:

القسم الثاني من المعاظلة اللفظية، تختص بتكرير الحروف، وليس ذلك مما يتعلق بتكرير الألفاظ، ولا بتكرير المعاني، مما يأتي ذكره في باب التكرير في المقالة الثانية، وإنما هو تكرير حرف واحد أو حرفين في كل لفظة من ألفاظ الكلام المنثور أو المنظوم، فيثقل حينئذ النطق به.
فمن ذلك قول بعضهم:
وقبر حربٍ بمكانٍ قفر ** وليس قرب قبر حربٍ قبر

فهذه القافات والراآت كأنها في تتابعها سلسلة، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل.
وكذا ورد قول الحريري في مقاماته:
وازور من كان له زائراً ** وعاف عافي العرف عرفانه

فقوله وعاف عافي العرف عرفانه من التكرير المشار إليه.
وكذلك ورد قوله أيضاً في رسالتيه اللتين صاغهما على حرف السين والشين، فإنه أتى في إحداهما بالسين في كل لفظة من ألفاظها وأتى في الأخرى بالشين في كل لفظة من ألفاظها، فجاءتا كأنهما رقى العقارب، أو خذروفة العزائم، وما أعلم كيف خفي ما فيهما من قبح على مثل الحريري مع معرفته بالجيد والرديء من الكلام.
ويحكى عن بعض الوعاظ أنه قال في جملة كلام أورده: جنى جنات وجنات الحبيب، فصاح رجل من الحاضرين في المجلس وماد وتغاشى، فقال له رجل كان إلى جانبه: ما الذي سمعته حتى حدث بك هذا؟ فقال: سمعت جيماً في جيم في جيم فصحت.
وهذا من أقبح عيوب الألفاظ.
ومما جاء منه قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي مطلعها:
أتراها لكثرة العشاق

كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ** راءها غير جفنها غير راقي

وهذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصرع التي تنوب في بعض الأيام.
ومن هذا القسم قول الشاعر المعروف بكشاجم في قصيدته التي مطلعها:
داو خماري بكأس خمر

والزهر والقطر في رباها ** ما بين نظمٍ وبين نثر

حدائقٌ كف كل ريحٍ ** حل بها خيط كل قطر

وهذا الباب يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتى يديره له.
وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم وهو البيت المشهور الذي يتذاكره الناس:
مللت مطال مولودٍ مفدى ** مليحٍ مانعٍ مني مرادي

وهذه الميمات كأنها عقد متصلة بعضها ببعض.
وكان بعض أهل الأدب من أهل مصرنا هذا يستعمل هذا القسم في ألفاظه كثيراً في كلامه نثراً ونظماً وذلك لعدم معرفته بسلوك الطريق.
وأنا أذكر نبذة من ذلك، كقوله في وصف رجل سخي: أنت المديح كبداً تريح، والمليح إن تجهم المليح بالتكليح، عند سائل تلوح، بل يفوق إذ يروق مرأى لوح، يا مغبوق كأس الحمد يا مصبوح، ضاق عن نداك اللوح وببابك المفتوح تستريح وتريح ذا التبريح، وترفه الطليح.
فانظر إلى حرف الحاء كيف قد لزمه في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاء كما تراه من الثقل والغثاثة؟ واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحساناً فقالوا في جعل لك، جعلك، وفي تضربونني، تضربوني، وكذلك قالوا: استعد فلان للأمر، إذا تأهب له، والأصل فيه استعدد واستتب الأمر، إذا تهيأ، والأصل فيه استتبب، وأشباه ذلك كثير في كلامهم، حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا أحد الحرفين المكررين حرفاً آخر غيره، فقالوا: أمليت الكتاب، والأصل فيه أمللت، فأبدلوا اللام ياء طلباً للخفة، وفراراً من الثقل وإذا كان قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة، فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضاً؟

.القسم الثالث: أن ترد ألفاظ على صيغة الفعل:

القسم الثالث من المعاظلة: أن ترد ألفاظ على صيغة الفعل يتبع بعضها بعضاً، فمنها ما يختلف بين ماض ومستقبل، ومنها ما لا يختلف.
فالأول كقول القاضي الأرجاني في أبيات يصف فيها الشمعة، وفيها معنى هو له مبتدع، ولم يسمع من غيره، وذلك أنه قال عن لسان الشمع، إنه ألف العسل وهو أخوه الذي ربي معه في بيت واحد، وإن النار فرقت بينه وبينه، وإنه نذر أن يقتل نفسه بالنار أيضاً من ألم الفراق، إلا أنه أساء العبارة فقال:
بالنار فرقت الحوادث بيننا ** وبها نذرت أعود أقتل روحي

فقوله نذرت أعود أقتل من المعاظلة المشار إليها.
وأما ما يرد على نهج واحد من الصيغة الفعلية فكقول أبي الطيب المتنبي:
أقل أنك أقطع احمل على سل أعد ** زد هش بش تقضل أدن سر صل

فهذه الألفاظ جاءت على صيغة واحدة، وهي صيغة الأمر، كأنه قال: افعل افعل، هكذا إلى آخر البيت وهذا تكرير للصيغة وإن لم يكن تكريراً للحروف، إلا أنه أخوه ولا أقول ابن عمه، وهذه الألفاظ متراكبة متداخلة ولو عطفها بالواو كانت أقرب حالاً كما قال عبد السلام بن رغبان:
فسد الناس فاطلب الرزق بالسيـ ** ـف وإلا فمت شديد الهزال

احل وامرر وضر وانفع ولن واخـ ** ـشن وأبرر ثم انتدب للمعالي

ألا ترى أنه لما عطف هاهنا بالواو لم تتراكب الألفاظ كتراكبها في بيت أبي الطيب المتقدم ذكره.
فإن قيل: إنك جعلت ما كان وراداً على صيغة واحدة على سبيل التكرار معاظلةً، وقد ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصدٍ} ولو كان معاظلة لما ورد في القرآن الكريم مثله.
فالجواب عن ذلك أني أقول: هذه الآية ليست كالذي أنكرته، فإن هذا الموضع ينظر فيه إلى الكثير والقليل، فإذا كثر كان تعاظلاً لتراكبه وثقله على النطق، وقد عرفتك أن ما يفصل بين صيغه بواو العطف يكون أقل ثقلاً مما لا يفصل، والذي أنكرته من ذلك هو أن يأتي ألفاظ مكررة على صيغة واحدة كأنها عقد متصلة، فحينئذ يثقل المنطق بها، ويكره موقعها من السمع كبيت أبي الطيب المتنبي وأما هذه الآية المشار إليها فإنها خارجة عن هذا الحكم، ألا ترى أنها لما وردت ألفاظها على صيغة واحدة فرق بينها بواو العطف، ثم مع التفريق بينها بواو العطف لم يرد التكرير فيها إلا بين ثنتين، وهما خذوهم واحصروهم وأما الصيغة الأولى فإنها أضيف إليها كلام آخر، فقيل: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولم يقل اقتلوا المشركين وخذوهم، ثم لما جاءت الصيغة الرابعة أضيف إليها كلام آخر أيضاً فقيل: {واقعدوا لهم كل مرصد} لا جرم أن الآية جاءت غير ثقيلة على النطق مع توارد صيغة صيغة الأمر فيها أربع مرار، وهذه رموز ينبغي أن يتنبه لها في استعمال الألفاظ إذا جاءت هكذا.

.القسم الرابع: ما تضمن مضافات كثيرة:

القسم الرابع من المعاظلة: وهو الذي يتضمن مضافات كثيرة كقولهم: سرج فرس غلام زيدٍ، وإن زيد على ذلك قيل: لبد سرج فرس غلام زيد، وهكذا أشد قبحاً وأثقل على اللسان، وعليه ورد قول ابن بابك الشاعر في مفتتح قصيدة له:
حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ** فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

.القسم الخامس من المعاظلة: أن ترد صفات متعددة على نحو واحد:

كقول أبي تمام في قصيدته التي مطلعها:
ما لكثيب الحمى إلى عقده

فقال يصف جملاً:
سأخرق الخرق بابن خرقاء كال ** هيق إذا ما استحم من نجده

مقابل في الجديل صلب القرا ** لوحك من عجبه إلى كتده

تامكه نهده مداخله ** ملمومه محزئله أجده

فالبيت الثالث من المعاظلة التي قلع الأسنان دون إيرادها.
وكذلك قال من هذه القصيدة يصف رمحاً:
ومر تهفو ذؤابتاه على ** أسمر متنٍ يوم الوغى جسده

مارنه لدنه مثقفه ** عراصه في الأكف مطرده

وهذا كالأول في قبحه وثقله، فقاتله الله ما أمتن شعره وما أسخفه في بعض الأحوال وعلى هذا جاء من هذه القصيدة أيضاً يصف الممدوح:
إليك عن سيل عارضٍ خضل الشؤ ** بوب يأتي الحمام من نضده

مسفه ثره مسحسحه ** وابله مستهله جرده

ولو لم يكن لأبي تمام من القبيح الشنيع إلا هذه الأبيات لحطت من قدره.
وعلى هذا ورد قول أبي الطيب المتنبي:
دانٍ بعيدٍ مبغضٍ بهجٍ ** أغر حلو ممرٍ لينٍ شرس

ندٍ أبيٍ غرٍ أخي ثقةٍ ** جعدٍ سريٍ ندبٍ رضى ندس

وهذا كله من سلسلة بلا شك، وقليلاً ما يوجد في أشعار الشعراء ولم أجده، كثيراً إلا في شعر الفرزدق، وتلك معاظلة معنوية، وسيأتي بيانها في بابها وهذه معاظلة لفظية وهي توجد في شعر أبي الطيب كثيراً.

.النوع الثامن: في المنافرة بين الألفاظ في السبك:

وهذا النوع لم يحقق أحد من علماء البيان القول فيه، وغاية ما يقال: إنه ينبغي ألا تكون الألفاظ نافرة عن مواضعها، ثم يكتفي بها القول، من غير بيان ولا تفصيل، حتى إنه قد خلط هذا النوع بالمعاظلة، وكل منهما نوع مفرد برأسه له حقيقة تخصه، إلا أنهما قد اشتبها على علماء البيان فكيف على جاهل لا يعلم.
وقد بينت هذا النوع وفصلته عن المعاظلة، وضربت له أمثلة يستدل بها على أخواتها وما يجري مجراها.
وجملة الأمر أن مدار سبك الألفاظ على النوع والذي قبله دون غيرهما من تلك الأنواع المذكورة، لأن هذين النوعين أصلاً سبك الألفاظ، وما عداهما فرع عليهما، وإذا لم يكن الناثر أو الناظم عارفاً بهما فإن مقاتله تبدو كثيراً.
وحقيقة هذا النوع الذي هو المنافرة: أن يذكر لفظ أو ألفاظ يكون غيرها مما هو في معناها أولى بالذكر.
وعلى هذا فإن الفرق بينه وبين المعاظلة أن المعاظلة هي التراكب والتداخل إما في الألفاظ أو في المعاني، على ما أشرت إليه، وهذا النوع لا تراكب فيه، وإنما هو إيراد ألفاظ غير لائقة بموضعها الذي ترد فيه.
وهو ينقسم قسمين: أحدهما يوجد في اللفظة الواحدة، والآخر: في الألفاظ المتعددة.
فأما الذي يوجد في اللفظة الواحدة فإنه إذا أورد في الكلام أمكن تبديله بغيره مما هو في معناه سواء كان ذلك نثراً أو نظماً.
وأما الذي يوجد في الألفاظ المتعددة فإنه لا يمكن تبديله بغيره من الشعر، بل يمكن ذلك في النثر خاصة لأنه يعسر في الشعر من أجل الوزن.
فمما جاء من القسم الأول قول أبي الطيب المتنبي:
فلا يبرم الأمر الذي هو حاللٌ ** ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم

فلفظة حالل نافرة عن موضعها، وكانت مندوحة عنها، لأنه لو استعمل عوضاً عنها لفظة ناقض فقال:
فلا يبرم الأمر الذي هو ناقضٌ ** ولا ينقض الأمر الذي هو يبرم

لجاءت اللفظة قارةً في مكانها غير قلقة ولا نافرة.
وبلغني عن أبي العلاء بن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب، حتى إنه كان يسميه الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها فيجيء حسناً مثلها، فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت المشار إليه، لكن الهوى كما يقال أعمى، وكان أبو العلاء أعمى العين خلقةً وأعماها عصبيةً، فاجتمع له العمى من جهتين.
وهذه اللفظة التي هي حالل وما يجري مجراها قبيحة الاستعمال وهي فك الإدغام في الفعل الثلاثي، ونقله إلى اسم فاعل، وعلى هذا فلا يحسن أن يقال: بل الثوب فهو بالل، ولا سل السيف فهو سالل، ولا أن يقال: هم بالأمر فهو هامم، ولا خط الكتاب فهو خاطط، ولا حن إلى كذا فهو حانن، وهذا لو عرض على من لا ذوق له لأدركه وفهمه، فكيف من له ذوق صحيح كأبي الطيب لكن لا بد لكل جواد من كبوة.
وأنشد بعض الأدباء بيتاً لدعبل وهو:
شفيعك فاشكر في الحوائج إنه ** يصونك عن مكروهها وهو يخلق

فقلت له: عجز هذا البيت حسن، وأما صدره فقبيح، لأنه سبكه قلقاً نافراً، وتلك الفاء التي في قوله شفيعك فاشكر كأنها ركبة البعير، وهي في زيادتها كزيادة الكرش، فقال: لهذه الفاء في كتاب الله أشباه كقوله تعالى: {يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر} فقلت له: بين هذه الفاء وتلك الفاء فرق ظاهر يدرك بالعلم، أولاً وبالذوق ثانياً، أما العلم فإن الفاء في: {وربك فكبر وثيابك فطهر} هي الفاء العاطفة، فإنها واردة بعد: {قم فأنذر} وهي مثل قولك: امش فأسرع، وقل فأبلغ، وليست الفاء التي في شفيعك فاشكر كهذه الفاء، لأن تلك زائدة لا موضع لها، ولو جاءت في السورة كما جاءت دعبل وحاش الله من ذلك لابتدئ الكلام فقيل: ربك فكبر وثيابك فطهر، لكنها جاءت بعد قم فأنذر، حسن ذكرها فيما يأتي بعدها: {وربك فكبر وثيابك فطهر} وأما الذوق فإنه ينبو عن الفاء الواردة في قول دعبل ويستثقلها، ولا يوجد ذلك في الفاء الواردة في السورة، فلما سمع ما ذكرته أذعن بالتسليم.
ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظماً كان أو نثراً لا يتفطن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة والبلاغة.
ومن هذا القسم وصل همزة القطع، وهو محسوب من جائزات الشعر التي لا تجوز في الكلام المنثور وكذلك قطع همزة الوصل، لكن وصل همزة القطع أقبح، لأنه أثقل على اللسان.
فمما ورد من ذلك قول أبي تمام:
قراني اللها والود حتى كأنما ** أفاد الغنى من نائلي وفوائدي

فأصبح يلقاني الزمان من أجله ** بإعظام مولودٍ ورأفة والد

فقوله من أجله وصل الهمزة القطع.
وعليه ورد قول أبي الطيب المتنبي:
توسطه المفاوز كل يومٍ ** طلاب الطالبين لا الانتظار

فقوله لا الانتظار كلام نافر عن موضعه.
ومن هذا القسم أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدم ذكره، كقول البحتري:
حلفت لها بالله يوم التفرق ** وبالوجد من قلبي بها المتعلق

تقديره من قلبي المتعلق بها فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك، ولو كان قال: من قلبٍ بها متعلق لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة.
ومن هذا القسم أيضاً أن تزاد الألف واللام في اسم الفاعل، ويقام الضمير فيه مقام المفعول كقول أبي تمام:
فلو عاينتهم والزائريهم ** لما مزت البعيد من الحميم

فقوله الزائري اسم فاعل، وقوله: هم الذي هو الضمير في موضع المفعول تقديره الزائرين أرضهم أو دارهم أو الزائرين إياهم، فاستعمال هذا مع الألف واللام قبيح جداً، وإذا حذفتا زال ذلك القبح وقد استعملها الشعراء المتقدمون كثيراً.
ومما جاء من القسم الثاني الذي يوجد في الألفاظ المتعددة قول أبي الطيب أيضاً:
لا خلق أكرم منك إلا عارفٌ ** بك راء نفسك لم يقل لك هاتها

فإن عجز هذا البيت نافر عن مواضعه، وأمثال هذا في الأشعار كثير.

.المقالة الثانية: في الصناعة المعنوية:

وهي تنقسم إلى قسمين: الأول منها في الكلام على المعاني مجملاً، والثاني في الكلام عليها مفصلاً.
وقبل الكلام على ذلك لا بد من توطئة تكون شاملةً لما نحن بصدد ذكره هاهنا فأقول: اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان غير أن ذلك الحصر كلي لا جزئي، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما تتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم ولا يفتقر إليه، فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله ومع هذا فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعراً أو تكلم نثراً.
فإن قيل: إن ذلك البدوي كان له ذلك طبعاً وخليقةً، والله فطره عليه كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في أصل الخلقة، فإنه فطر الترك على الإحسان في الرمي والإصابة فيه من غير تعليم، وكذلك فطر أهل الصين على الإحسان في صنعة اليد فيما يباشرونه من مصوغ أو خشب أو فخار أو غير ذلك وكذلك فطر أهل المغرب على الشجاعة، وهذا لا نزاع فيه فإنه مشاهد.
فالجواب عن ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا تقول فيمن جاء بعدهم من شاعر وخطيب تحضروا وسكنوا البلاد، ولم يروا البادية ولا خلقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النظم والشعر، وجاءوا بمعانٍ كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها.
فإن قلت: إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه.
قلت لك في الجواب: هذا شيء لم يكن، ولا علم أبو نواس شيئاً منه ولا مسلم بن الوليد، ولا أبو تمام ولا البحتري، ولا أبو الطيب المتنبي، ولا غيرهم وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد، والصابي، وغيرهم، فإن ادعيت أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا، فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته ومع هذا فانظر إلى كلامي، فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب، وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي وهي عدة مجلدات وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوةٍ من ذلك كله، وأنه لا يحتاج إليه أبداً، وفي كتابي هذا ما يغنيك وهو كافٍ.
ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بن سنا في الخطابة والشعر، وذكر ضرباً من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول فيه وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغوٌ لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئاً، ثم مع هذا جميعه فإن معول القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة، وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فما صاغه من شعر أو كلام مسجوع، فإن له شيئاً من ذلك في كلامه، وعند إفاضته في صوغ ما صاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه فكر أولاً في المقدمتين والنتيجة ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به ولطال الخطب عليه، بل أقول شيئاً آخر، وهو: أن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة من مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال: فقاقع ليس لها طائل، كأنها شعر الأبيوردي.
وحيث أوردت هذه المقدمة قبل الخوض في تقسيم المعاني فإني راجع إلى شرح ما أجملته فأقول: أما القسم الأول فإن المعاني فيه على ضربين: أحدهما يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه، وهذا الضرب ربما عثر عليه عند الحوادث المتجددة، ويتنبه له عند الأمور الطارئة، ولنشر في هذا الموضع إلى نبذة لتكون مثالاً للمتوشح لهذه الصناعة.
فمن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلبين:
بكروا وأسروا في متون ضوامرٍ ** قيدت لهم من مربط النجار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم ** أبداً على سفرٍ من الأسفار

وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة والخاطر في مثل هذا المقام ينساق إلى المعنى المخترع من غير كبير كلفة، لشاهد الحال الحاضرة.
وكذلك قال في هذه القصيدة في صفة من أحرق بالنار:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ** حتى اصطلى سر الزناد الواري

ناراً يساور جسمه من حرها ** لهبٌ كما عصفرت شق إزار

طارت لها شعلٌ يهدم لفحها ** أركانه هدماً بغير غبار

فصلن منه كل مجمع مفصلٍ ** وفعلن فاقرةً بكل فقار

مشبوبةً رفعت لأعظم مشركٍ ** ما كان يرفع ضوءها للساري

صلى لها حيا وكان وقودها ** ميتاً ويدخلها مع الفجار

وهذا مما يعين على استخراج المعاني فيه شاهد الحال.
وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال:
كم عزيزٍ أباده فغدا ير ** كب عوداً مركباً في عود

أسلمته إلى الرقاد رجالٌ ** لم يكونوا عن وترهم برقود

تحسد الطير فيه ضبع البوادي ** وهو في غير حالة المحسود

غاب عن صحبه فلا هو موجو ** د لديهم وليس بالمفقود

وكأن امتداد كفيه فوق ال ** جذع في محفل الردى المشهود

طائرٌ مد مستريحاً جناحيـ ** ـه استراحات متعبٍ مكدود

أخطب الناس راكباً فإذا أر ** جل خاطبت منه عين البليد

وهذه أبيات حسنة قد استوعبت أقسام هذا المعنى المقصود، إلا أن فيها مأخوذاً من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري وهو قوله:
نصبته حيث ترتاب الرياح به ** وتحسد الطير فيه أضبع البيد

لكن البحتري زاد في ذلك زيادة حسنة، وهي قوله: وهو في غير حالة المحسود.
ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى وهو قوله:
وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا ** فعافتها وباتت في عظامي

كأن الصبح يطردها فتجري ** مدامعها بأربعةٍ سجام

أراقب وقتها من غير شوقٍ ** مراقبة المشوق المستهام

وقد شرح أبو الطيب بهذه الأبيات حاله مع الحمى.
ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف الدولة بن حمدان كان مخيماً بأرض ديار بكر على مدينة ميافارقين، فعصفت الريح بخيمته، فتطير الناس لذلك، وقالوا فيه أقوالاً، فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها:
أينفع في الخيمة العذل

فمنه ما أحسن فيه كل الإحسان وهو قوله:
تضيق بشخصك أرجاؤها ** ويركض في الواحد الجحفل

وتقصر ما كنت في جوفها ** وتركز فيها القنا الذبل

وكيف تقوم على راحةٍ ** كأن البحار لها أنمل

فليت وقارك فرقته ** وحملت أرضك ما تحمل

فصار الأنام به سادةً ** وسدتهم بالذي يفضل

رأت لون نورك في لونها ** كلون الغزالة لا يغسل

وأن لها شرفاً باذخاً ** وأن الخيام بها تخجل

فلا تنكرن لها صرعةً ** فمن فرح النفس ما يقتل

ولو بلغ الناس ما بلغت ** لخانتهم حولك الأرجل

ولما أمرت بتطنيبها ** أشيع بأنك لا ترحل

فما اعتمد الله تقويضها ** ولكن أشار بما تفعل

وعرف أنك من همه ** وأنك في نصره ترفل

فما العاندون وما أملوا ** وما الحاسدون وما قولوا

هم يطلبون فمن أدركوا ** وهم يكذبون فمن يقبل

وهم يتمنون ما يشتهون ** ومن دونه جدك المقبل

هذه الأبيات قد اشتملت على معانٍ بديعة، وكفى المتنبي فضلاً أن يأتي بمثلها، وهذا مقام يظهر في مثله براعة الناظم والناثر.
وقرأت في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس، ثم بمن كان في زمانه، وانسحب على ذيله، فقال فيما أورده من شعره: وله معنى لم يسبق إليه بإجماع وهو قوله:
تدار علينا الراح في عسجديةٍ ** حبتها بأنواع التصاوير فارس

قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مهاً تدريها بالقسي الفوارس

فللراح ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس

وقد أكثر العلماء من وصف هذا المعنى وقولهم فيه: إنه معنى مبتدع.
ويحكى عن الجاحظ أنه قال: ما زال الشعراء يتناقلون المعنى قديماً وحديثاً إلا هذا المعنى فإن أبا نواس انفرد بإبداعه، وما أعلم أنا ما أقول لها ولأبي سوى أن أقول: قد تجاوز بهم حد الإكثار، ومن الأمثال السائرة: بدون هذا يباع الحمار، وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا هذا المعنى، فإنه لا كبير كلفة فيه، لأن أبا نواس رأى كأساً من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره، والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماءً يسيراً، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلاً بقدر القلانس التي على رءوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر.
وكذلك ورد قوله في الخمر أيضاً:
يا شقيق النفس من حكم ** نمت عن ليلي ولم تنم

فاسقني الخمر التي اختمرت ** بخمار الشيب في الرحم

وهذا معنى مخترع له لم يسبق إليه، وهو دقيق يكاد لدقته أن يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصور.
وبلغني أنه اختلف في هذا المعنى بحضرة الرشيد هارون رحمه الله، فقيل: إنه يريد بخمار الشيب في الرحم أن الخمر تكون في جوانبها ذات زبد أبيض على وجهها، فقال الأصمعي: إن أبا نواس ألطف خاطراً من هذا، وأسد غرضاً فاسألوه، فأحضر وسئل، فقال: إن الكرم أول ما يجري فيه الماء يخرج شبيهاً بالقطنة، وهي أصل العنقود، فقال الأصمعي: ألم أقل لكم إن الرجل ألطف خاطراً وأسد غرضاً.
وقد جاء لابن حمديس الصقلي في الهلال لآخر الشهر ما لم يأت به غيره، وهو من الحسن واللطافة في الغاية القصوى، وذلك قوله:
كأنما أدهم الظلماء حين نجا ** من أشهب الصبح ألقى نعل حافره

وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر، إلا أنه أبدع في التشبيه.
وأمثال هذا كثيرة في أقوال المجيدين من الشعراء.
وجملة الأمر في ذلك أن الشاعر أو الكاتب ينظر إلى الحال الحاضرة ثم يستنبط لها ما يناسبها من المعاني، كما فعل النابغة في مدح النعمان وقد أتاه وفد من الوفود فمات رجل منهم قبل أن يرفدهم فلما رفدهم جعل عطاء ذلك الميت على قبره حتى جاء أهله وأخذوه، فقال النابغة في ذلك:
حباء شقيق فوق أحجار قبره ** وما كان يحبى قبله قبر وافد

وهذا بيت من جملة أبيات، فانظر كيف فعل النابغة في هذا المعنى؟ وكذلك ورد قول أخت جساس زوجة كليب، فإنه لما قتل جساس كليباً اجتمع النساء إليها وندبته، فتحدث بعضهم إلى بعض، وقلن: هذه ليست ثاكلة وإنما هي شامتة، فإن أخاها هو القاتل، فنم ذلك إليها فقالت:
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا ** تعجلي باللوم حتى تسألي

فإذا أنت تبينت الذي ** يوجب اللوم فلومي واعذلي

إن أختاً لامرئٍ ليمت على ** شفقٍ منها عليه فافعلي

جل عندي فعل جساسٍ فوا ** حسرتا عم انجلت أو تنجلي

لو بعينٍ فقئت عينٌ سوى ** أختها فانفقأت لم أحفل

يا قتيلاً قوض الدهر به ** سقف بيتي جميعاً من عل

هدم البيت الذي استحدثته ** وانثنى في هدم بيتي الأول

يشتفي المدرك بالثأر وفي ** دركي ثأري ثكلٌ مثكلي

إنني قاتلةٌ مقتولةٌ ** ولعل الله أن يرتاح لي

وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون من الشعراء لاستعظمت، فكيف امرأة وهي حزينة في شرح تلك الحال المشار إليها.
واعلم أنه قد يستخرج من المعنى الذي ليس بمبتدع معنى مبتدع.
فمن ذلك قول الشاعر المعروف بابن السراج في الفهد:
تنافس الليل فيه والنهار معاً ** فقمصاه بجلبابٍ من المقل

وليس هذا من المعاني الغريبة ولكنه تشبيه حسن واقع في موقعه.
وقد جاء بعده شاعر من أهل الموصل يقال له ابن مسهر فاستخرج من هذا البيت معنى غريباً فقال:
ونقطته حباءً كي يسالمها ** على المنايا نعاج الرمل بالحدق

وهذا معنى غريب لم أسمع بمثله في مقصده الذي قصد من أجله، وقليلاً ما يقع هذا في الكلام المنثور والمنظوم، وهو موضع ينبغي أن توضع اليد عليه، ويتنبه له، وكذلك فلتكن سياقة ما جرى هذا المجرى.
وقد جاءني شيء من ذلك في الكلام المنثور.
فمن ذلك ما ذكرته في وصف نساء حسان، وهو: أقبلت ربائب الكناس، في مخضر اللباس، فقيل: إنما يخترن الخضرة من الألوان ليصح تشبيههن بالأغصان.
وهذا معنى غريب وربما يكون قد سبقت إليه، إلا أنه لم يبلغني بل ابتدعته ابتداعاً.
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن منازلة بلد، فذكرت القتال بالمنجنيق وهو: فنزلنا بمرأى منه ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع، ونصبت المنجنيقات فأنشأت سحباً صعبة القياد، مختصة بالربا دون الوهاد فلم تزل تقذف السور بوبلٍ من جلمودها، وتفجؤه برعودها قبل بروقها وبروق السحب قبل رعودها، حتى غادرت الحزن منه سهلاً والعامر بلقعاً مخلى.
وفي هذا معنيان غريبان: أحدهما أن هذه السحب تخص الربا دون الوهاد، والآخر: أن رعودها قبل بروقها وكل ذلك يتفطن له بالمشاهدة.
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب، فقلت: إذا تخلق المرء بخلق البأس والندى لم يخف عرضه دنسا، كما أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل نجساً.
وهذا المعنى مبتدع لي، وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً».
ومن ذلك ما ذكرته في وصف مفازة، فقلت: مفازة لا توطأ بأجفان ساهر، ولا تقتل باقتحام خابر، ولولا مسير الهلال من فوقها لما عرفت تمثال حافر.
ومن ذلك ما ذكرته في كتاب أصف فيه نزول العدو على حصار بلد من بلاد المكتوب عنه، وكان ذلك في زمن الشتاء فسقط على العدو ثلج كثير صار به محصوراً فقلت: وقد عاجله قتال البروق قبل البوارق، وأحاط به الثلج فصار خنادق تحول بينه وبين الخنادق، والشتاء قد لقي عسكره من البرد بعسكره، والسماء قد قابلته بأغبر وجهها لا بأخضره، والأرض كأنها قرصة النقي وعسى أن تكون أرض محشره.
والمعنى المخترع من هذا الكلام قولي والأرض كأنها قرصة النقي وعسى أن تكون أرض محشره وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تحشرون على أرض بيضاء كقرصة النقي» يريد الخبزة البيضاء ولما كان الثلج على الأرض مماثلاً لذلك ومشابهاً له استنبطت أنا له هذا المعنى المخترع فجاء كما تراه وهو من المعاني التي يدل عليها شاهد الحال.
وأحسن من هذا كله ما كتبته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد، فقلت: ودولته هي الضاحكة وإن كان نسبها إلى العباس، وهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس، ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلاً بأنها لا تهرم، وأنها لا تزال محبوة من أبكار السعادة بالحب الذي لا يسلى والوصل الذي لا يصرم، وهذا معنى استنبطه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لم تخط به الأقلام في خطها ولا أجالته الخواطر في أفكارها.
وغرابة هذا المعنى ظاهرة، ولم يأت بها أحد قبلي.
وبلغني من المعاني المخترعة أن عبد الملك بن مروان بنى باباً من أبواب المسجد الأقصى بالبيت المقدس، وبنى الحجاج باباً إلى جانبه، فجاءت صاعقة فأحرقت الباب الذي بناه عبد الملك، فتطير لذلك وشق عليه، فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه كتاباً: بلغني كذا وكذا، فليهن أمير المؤمنين أن الله تقبل منه، وما مثلي ومثله إلا كابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر فلما وقف عبد الملك على كتابه سري عنه. وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم، وهو من المعاني المناسبة لما ذكرت فيه، ويكفي الحجاج من فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك.
وأما المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فإنها أصعب مثالاً مما يستخرج بشاهد الحال، ولأمرٍ مما كان لأبكارها سرٌ لا يهجم على مكامنه إلى جنان الشهم، ولا يفوز بمحاسنه إلا من دق فهمه حتى جل عن دقة الفهم، وللهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب البواتر أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب الخواطر، وما ذلك مما يلقيه إليك الأستاذ وليس يقوم به إلا الفذ ولا أقول الأفذاذ وأين الذي ينشء فيحسن فيها الانشاء ويبرز صوراً يركبها كيف يشاء؟ ومن نظر إلى هذا الموضع حق النظر، وأخذ فيه بالعين دون الأثر، علم أنه مقام يزلق بمعارف الأفهام فكيف بمواقف الأقدام، وليست المعاني فيه إلا كالأرواح، ولا الألفاظ إلا كالأجسام، فمن شاء أن يخلق خلقاً من الكلام فليأت به على صورة الأناسي لا على صورة الأنعام، فإن من القول الغانية التي هي أحسن من الغانية ومنه البهيمة التي لا تشبه إلا بالسانية.
فمما جاء في هذا الباب قول أبي نواس:
شرابك في السراب إذا عطشنا ** وخبزك عند منقطع التراب

وما روحتنا لتذب عنا ** ولكن خفت مرزئة الذباب

فالبيت الثاني من هذين البيتين هو المشار إليه بأنه معنى مبتدع، ويحكى عن الرشيد هارون رحمه الله أنه قال: لم يهج بادٍ ولا حاضر بمثل هذا الهجاء.
ومن هذا الباب قول مسلم بن الوليد:
تنال بالرفق ما تعيا الرجال به ** كالموت مستعجلاً يأتي على مهل

ومن هذا الباب قول علي بن جبلة:
تكفل ساكن الدنيا حميدٌ ** فقد أضحت له الدنيا عيالا

كأن أباه آدم كان أوصى ** إليه أن يعولهم فعالا

وهذا معنى دندن حوله الشعراء، وفاز علي بن جبلة بالإفصاح عنه.
وقد قيل: إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعاً للمعاني، وقد عدت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى.
وأهل هذه الصناعة يكبرون ذلك، وما هذا من مثل أبي تمام بكبير، فإني أنا عددت معاني المبتدعة التي وردت في مكاتباتي فوجدتها أكثر من هذه العدة، وهي مما لا أنازع فيه، ولا أدافع عنه فأما ما ورد لأبي تمام فمن ذلك قوله:
يأيها الملك النائي برؤيته ** وجوده لمراعي جوده كثب

ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملاً ** إن السماء ترجي حين تحتجب

وكذلك قوله:
رأينا الجود فيك وما عرضنا ** لسجلٍ منه بعد ولا ذنوب

ولكن دارة القمر استتمت ** فدلتنا على مطر قريب

وكذلك قوله في الهجاء:
وأنت تدير قطب رحاً عليا ** ولم نر للرحا العلياء قطبا

ترى ظفراً بكل صراع قرنٍ ** إذا ما كنت أسفل منه جنبا

وكذلك قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ** طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود

وكذلك قوله:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلاً شروداً في الندى والبأس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلاً من المشكاة والنبراس

وكذلك قوله:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ** فالسيل حربٌ للمكان العالي

وكذلك له في الشيب:
شعلةٌ في المغارق استودعتني ** في صميم الفؤاد ثكلاً صميما

يستثير الهموم ما اكتن منها ** صعداً وهي تستثير الهموما

فالبيت الثاني من المعاني المخترعة، وقد تفقه فيه فجعله مسألة من مسائل الدور، وهذا من إغراب أبي تمام المعروف.
وهذا القدر كاف من جملة معانيه، فإنا لم نستقصها هاهنا.
ومن هذا الباب قول ابن الرومي:
كل امرئٍ مدح امرأً لنواله ** وأطال فيه فقد أساء هجاءه

لو لم يقدر فيه بعد المستقى ** عند الورود لما أطال رشاءه

وكذلك قوله:
عدوك من صديقك مستفادٌ ** فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه ** يكون من الطعام أو الشراب

وكذلك قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ** يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنه ** لأوسع مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ** بما هو لاقٍ من أذاها يهدد

وكذلك قوله:
رددت علي مدحي بعد مطلٍ ** وقد دنست ملبسه الجديدا

وقلت امدح به من شئت غيري ** ومن ذا يقبل المدح الرديدا

وهل للحي في أكفان ميتٍ ** لبوسٌ بعدما امتلأت صديدا

وقد ورد لأبي الطيب المتنبي من ذلك كقوله:
أجزني إذا أنشدت مدحاً فإنما ** بشعري أتاك المادحون مرددا

ودع كل صوتٍ بعد صوتي فإنني ** أنا الصائح المحكي والأخر الصدى

فالبيت الأول قد توارد على معناه الشعراء قديماً وحديثاً، لكن البيت الثاني في التمثيل الذي مثله ليس لأحد إلا له.
وكذلك قوله:
بهجر سيوفك أغمادها ** تمنى الطلى أن تكون الغمودا

إلى الهام تصدر عن مثله ** ترى صدراً عن ورودٍ ورودا

وكذلك قوله في بدر بن عمار يهنيه ببرئه من مرض:
قصدت من شرقها ومغربها ** حتى اشتكت الركاب والسبل

لم تبق إلا قليل عافيةٍ ** قد وفدت تجتديكها العلل

وقد وقفت على ما شاء الله من أشعار الفحول من الشعراء قديماً وحديثاً فلم أجد لأحد منهم في ذكر المرض ما يعد معنىً مخترعاً، لا بل لم أجد من أقوالهم شيئاً مرضياً، ما عدا المتنبي، فإنه ذكر المرض في عدة مواضع من شعره فأجاد، وهذا البيت الثاني من هذين البيتين معنىً مخترع له، وقد أحسن فيه كل الإحسان.
ومما ابتدعه بإجماعٍ قوله في مدح عضد الدولة في قصيدته النونية التي مطلعها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني

قال عند ذكره:
فعاشا عيشة القمرين يحيا ** بضوئهما ولا يتحاسدان

ولا ملكا ملك الأعادي ** ولا ورثا سوى من يقتلان

وكان ابنا عدوٍ كاثراه ** له ياءي حروف أنيسيان

أي: جعل الله ابني عدو كاثراه يعني ابني عضد الدولة كياءي حروف تصغير إنسان، فإن ذلك زيادة وهو نقص في المقدار، إلا أن سبك هذا البيت قد شوهه وأذهب طلاوة المعنى المندرج تحته.
ومن معانيه المبتدعة قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال

وأحسن من ذلك قوله:
صدمتهم بخميسٍ أنت غرته ** وسمهريته في وجهه غمم

فكان أثبت ما فيهم جسومهم ** يسقطن حولك والأرواح تنهزم

وهذا من أعاجيب أبي الطيب التي برز فيها على الشعراء.
ومن الإحسان في هذا الباب قول بعضهم:
وقد أشق الحجاب الصعب مأربه ** دوني وآبى ولولجاً فيه إن طرقا

كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحاً ** وليس يدخله إلا إذا انطبقا

ورأيت ابن حمدون البغدادي صاحب كتاب التذكرة قد أورد هذين البيتين في كتابه، وقال: قد أغرب هذا الشاعر ولكنه خلط وجرى على عادة الشعراء، لأن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس، وهذا كلام من لم يطعم من شجرة الفصاحة والبلاغة، وليس مثله عندي، إلا كما يحكى عن ملك الروم إذ أنشد عنده بيت المتنبي الذي هو:
كأن العيس كانت فوق جفني ** مناخاةً فلما ثرن سالا

فسأل عن المعنى ففسر له فقال: ما سمعت بأعذب من هذا الشاعر أرأيت من أناخ الجمل على عينه لا يهلكه.
ومن محاسن هذا القسم قول بعضهم:
تخيره الله من آدمٍ ** فما زال منحدراً يرتقي

وكذلك قول الآخر:
بأبي غزالٌ غازلته مقلتي ** بين الغوير وبين شطي بارق

عاطيته والليل يسحب ذيله ** صهباء كالمسك الفتيق لناشق

وضممته ضم الكمي لسيفه ** وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي

حتى إذا مالت به سنة الكرى ** زحزحته شيئاً وكان معانقي

أبعدته عن أضلعٍ تشتاقه ** كي لا ينام على وسادٍ خافق

وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى، ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصاً، والبيت الأخير منه هو الموصوف بالإبداع، وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الأسماع.
ومن هذا الضرب قول بعض المصريين يهجو إنساناً يقال له ابن طليل احترقت داره:
انظر إلى الأيام كيف تسوقنا ** طوعاً إلى الإقرار بالأقدار

ما أوقد ابن طليل قط بداره ** ناراً وكان هلاكها بالنار

وكذلك ورد قول ابن قلاقس من شعراء مصر:
زد رفعةً إن قيل أنغ ** ض وانخفض إن قيل أثرى

كالغصن يدنو ما اكتسى ** ثمراً وينأى ما تعرى

وهذا من المعاني الدقيقة.
ومن هذا الأسلوب قول الشاعر المعروف بالحافظ في تشبيه البهار وهو:
عيون تبرٍ كأنما سرقت ** سواد أحداقها من الغسق

فإن دجا ليلها بظلمته ** ضممن من خوفها على السرق

وهذا تشبيه بديع لم يسمع بمثله، وهو من اللطافة على ما لا خفاء به.
ومن هذا القسم قول بعض المتأخرين من أهل زماننا:
لا تضع من عظيم قدرٍ وإن كن ** ت مشاراً إليه بالتعظيم

فالشريف العظيم ينقص قدراً ** بالتعدي على الشريف العظيم

ولع الخمر بالعقول رمى الخم ** ر بتنجيسها وبالتحريم

ومن غريب ما سمعته في هذا الباب قول بعض الشعراء المغاربة يرثي قتيلاً:
غدرت به زرق الأسنة بعدما ** قد كن طوع يمينه وشماله

فليحذر البدر المنير نجومه ** إذ بان غدر مثالها بمثاله

وكذلك جاء قول بعض المغاربة في الخمر وكاساتها:
ثقلت زجاجاتٌ أتتنا فرغاً ** حتى إذا ملئت بصرف الراح

خفت فكادت أن تطير بما حوت ** وكذا الجسوم تخف بالأرواح

وهذا معنى مبتدع أشهد أنه يفعل بالعقول فعل الخمر سكراً، ويروق كما رقت لطفاً، ويفوح كما فاحت نشراً.
وكذلك ورد قول ابن حمديس الصقلي:
يا سالباً قمر السماء جماله ** ألبستني للحزن ثوب سمائه

أضرمت قلبي فارتمى بشرارةٍ ** وقعت بخدك فانطفت من مائه

وهذا المعنى دقيق جداً.
وقد سمعت في الخال ما شاء الله أن أسمع فلم أجد مثل هذا.
وقد جاءني في الكلام المنثور من هذا الضرب شيء، وسأذكر هاهنا منه نبذة.
فمن ذلك ما ذكرته في وصف صورة مليحة، فقلت: ألبس من الحسن أنضر لباس، وخلق من طينة غير طينة الناس، وكما زاد حسناً فكذلك ازداد طيباً، واتفقت فيه الأهواء حتى صار إلى كل قلب حبيباً، فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، أو مر على النيلوفر ليلاً لتفتحت أحداقه.
والمعنى الغريب هاهنا أن الشمس إذا طلعت على النيلوفر تفتح أوراقه، وإذا غربت عنه انضم ثم إني سمعت هذا في شعر الفرس لبعض شعرائهم، فحصل عندي منه تعجب.
ومن ذلك ما ذكرته في ذم الشيب، فقلت: الشيب إعدام للإيسار، وظلام للأنوار، وهو الموت الأول الذي يصلى ناراً من الهم أشد وقوداً من النار، ولئن قال قوم إنه جلالة فإنهم دقوا به وما جلوا، وأفتوا في وصفه بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثاً للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا، ومن عجيب شأنه أنه المملول الذي يشفق من بعده، والخلق الذي يكره نزع برده، ولما فقد الشباب كان عنه عوضاً ولا عوض عنه في فقده.
والمعنى المخترع هاهنا في قولي وما أراه إلا محراثاً للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قومٍ إلا ذلوا وهو مستنبط من الحديث النبوي، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى آلة حرث، فقال: «ما دخلت هذه دار قوم إلا ذلوا» فأخذت أنا هذا ونقلته إلى الشيب، فجاء كما تراه في أعلى درجات الحسن، وذلك لما بينه وبين الشيب من المناسبة الشبيهة، لأن الشيب يفعل في البدن ما يفعله المحراث في الأرض، وإذا نزل بالإنسان أحدث عنه ذلاً.
ومن هذا الباب ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الناس أعبث به، فقلت: وإذا كتبت مثالبه في كتاب اجتمع عليه بنات وردان، وحرم علي أن أبدأ فيه بالبسملة لأنها من القرآن وهذا معنى لطيف في غاية اللطافة وهو مخترع لي.
وكذلك كتبت إلى بعض الناس كتاباً من هذا الجنس أهزل معه، فقلت في فصل منه ما أذكره وهو: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي دون امتداحي، فإني لم أسمه إلا لتحرم به الأضحية في يوم الأضاحي، ولا شك أن سيدنا معدود في جملة الأنعام، غير أنه من ذوات القرون والقرن عدوه عند الخصام.
وهذا معنى ابتدعته ابتداعاً، ولم أسمعه لأحد من قبلي.
ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن هزيمة الكفار وذلك فصل منه فقلت: وكانت الوقعة يوم الأحد منتصف شهر كذا وكذا، وهذا هو اليوم الذي تخيره الكفار من أيام الأسبوع، ونصبوه موسماً لشرع كفرهم المشروع، فحصل ارتيابهم به إذ تضمن للإسلام مزيداً، وقالوا: هذه يوم قد أسلم فلا نجعله عيداً، وقد أفصح لهم لسانه كما لو كانوا يعلمون، بأن الدين عند الله هو الإسلام وأن أولياءه هم المسلمون.
وهذا معنى انفردت بابتداعه، ولم يأت به أحد ممن تقدمني.
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد، وهو في وصف القلم، فقلت: وقلم الديوان العزيز هو الذي يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع وهو المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع، ومن أحسن صفاته أن شعاره من شعار مولاه، فهو يخلع على عبيده من الكرامة ما يخلع.
في هذه الأوصاف معانٍ حسنة لطيفة، ومنها معنى غريب لم أسبق إليه، وهو قولي إنه المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع فإن هذا مما ابتكرته، وهو مستخرج من الحديث النبوي في ذكر الطاعة والجماعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أطع ولو عبداً حبشياً مجدعاً ما أقام عليك كتاب الله» فاستخرجت أنا للقلم معنى من ذلك، وهو أن القلم يجدع ويقمص لباس السواد فصار حبشياً أجدع، وهذا كما فعل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قصيدته السينية فإنه استخرج المعنى المخترع من القرآن الكريم، وأنا استخرجت المعنى من الخبر النبوي كما أريتك، وهذا المعنى المشار إليه في وصف القلم أوردته بعبارة أخرى على وجه آخر ونبهت عليه في كتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم وهذا كتاب ألفته في صناعة حل الشعر وغيره وبعد هذا فسأقول لك في هذا الموضع قولاً لم يقله أحد غيري، وهو أن المعاني المبتدعة شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة، فكما أنك إذا وردت عليك مسألة من المجهولات تأخذها وتقلبها ظهراً لبطن، وتنظر إلى أوائلها وأواخرها، وتعتبر أطرافها وأوساطها وعند ذلك تخرج بك الفكرة إلى معلوم، فكذلك إذا ورد عليك معنى من المعاني ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية إلا أن هذا لا يقع في كل معنى، فإن أكثر المعاني قد طرق وسبق إليه، والإبداع إنما يقع في معنى غريب لم يطرق، ولا يكون ذلك إلا في أمر غريب لم يأت مثله، وحينئذ إذا كتبت فيه كتاب أو نظم فيه شعر فإن الكاتب والشاعر يعثران على مظنة الإبداع فيه، وقد لابست ذلك في مواضع كثيرة وسأورد هاهنا ما يحذى حذوه لمن استطاع إليه سبيلاً.
ومن ذلك ما كتبته عن نفسي إلى بعض ملوك الشام، وأهديت إليه رطباً، وهو: خلد الله دولة مولانا وعمر لها مجداً وجناناً، وخولها السعادة عطاء حساباً، وأنشأ الليالي لخدمتها عرباً أتراباً، وأبقى شبيهتها بقاءً لا يستحدث معه خضاباً، ولا جعل لها في محاسن الدول السابقة أشباهاً ولا أضراباً، وألقى البأس بين أعدائها وحسادها حتى يبعث لهم في الأرض غراباً، إذا أراد العبيد أن يهدوا لمواليهم قصرت بهم يد وجدهم، وعلموا أن كل ما عندهم من عندهم، لكن في الأشياء المستطرفة ما يهدي وإن كان قدره خفيفاً، ولولا اختلاف البلاد فيما يوجد بها لما كان شيء من الأشياء طريفاً، وقد أهدى المملوك من الرطب ما يتجلى في صفة الوارس، ويزهى بحسنه حتى كأنه لم يدنس بيد لامس، وما سمي رطباً إلا لاشتقاقه من الرطب الذي هو ضد اليابس، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثناء جماً، وفضل شجرته على الشجر بأن سماها أماً، ولئن عدم عرفا لذيذاً فإنه لم يعد منظراً لذيذاً ولا طعماً، وله أوصاف أخرى هي لفضله بمنزلة الشهود فمنها أنه أول غذاء يفطر عليه الصائم وأول غذاء يدخل بطن المولود، وأحسن من ذلك أنه معدود من الحلواء وإن كان من ذوات الغراس، ولا فرق بينهما سوى أنه من خلق الله وتلك من خلق الناس، وإذا أنصف واصفه، قال: ما من ثمرة إلا وهي عنه قاصرة، ولو تفاخرت البلاد بمحاسن ثمارها لقامت أرض العراق به فاخرة، وها قد سار إلى باب مولانا وهو مجني المنابت سار إلى مجني الكرم، وملك الفاكهة وفد على ملك الشيم، ولما استقلت به الطريق أنشأ الحسد لغيره من الفواكه أرباً، وما منها إلا من قال يا ليتني كنت رطباً، ولئن كان من الثمرات التي تختلف في الصور والأسماء، ويفضل بعضها على بعض ويسقى بشراب واحد من الماء، فكذلك تلك الشيم العريقة تتحد في عنصرها وهي مختلفة الوتيرة، ومن أفضلها شيمة السماح التي تقبل القليل من عبيدها، وتسمح لهم بالعطايا الكثيرة، وقد ضرب لها المملوك مثالاً فقال هي كجنة بربوة بل ضرب لها ما ضرب من للمثل النبوي، وهي نخلة بكبوة، ولا يختم كتابه بأحسن من هذا القول الذي طاب سمعاً وزكا أصلاً وفرعاً، وتصرف في أساليب البلاغة فجاء به وتراً وشفعاً والسلام.
وهذا كتاب غريب في معناه، وقد اشتمل على معان كثيرة، فمن جملتها أن الرطب مشتق من الرطب الذي هو ضد اليابس، ومن جملتها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النخلة أماً فقال: «أمكم النخلة» ومن جملتها أنه كان صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات فإن لم يجد فتمرات، ومن جملتها أنه كان يلوك التمرة ويحنك بها المولود عند ميلاده، ولما ولد عبد الله بن الزبير جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاك تمرة ووضعها في فيه، ومن جملتها أنه والحلواء شيء واحد إلا أنه من خلق الله وتلك من خلق الناس، ومن جملتها أن العباس رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن قريشاً تذاكرت أحسابها فضربوا لك مثالاً بنخلة بكبوة، وكل هذه المعاني حسنة واردة في موضعها، ومن كتب في معنى من المعاني حسنة واردة في موضعها ومن كتب في معنى من المعاني فليكتبه هكذا، وإلا فليدع.
ومن ذلك رقعة كتبتها إلى بعض حجاب السلطان في حاجة عرضت لي، وأرسلت معها هدية من ثياب ودراهم، وهي:
ما من صديق وإن صحت صداقته ** يوماً بأنجح في الحاجات من طبق

إذا تلثم بالمنديل منطلقاً ** لم يخش نبوة بوابٍ ولا غلق

الهدية مشتقة من الهدى، غير أنها ترف إلى القلب لا إلى الندى، وصهارتها أنفع من الصهارة، وكلما ترددت كانت بكراً فهي لا تنفك عن البكارة، ومن خصائصها أنها تمسك بمعروف أمن من السراح، وإذا رامت فتح باب لا تفتقر في علاجه إلى مفتاح، وقد قيل: إنها الحسناء المتأنقة في عمارة بيتها، التي توصف بأن القنديل يضيء بزيتها وقد أرسلتها إلى المولى وهي تتهادى في إعجابها، وتدل بكثرة دراهمها وثيابها، وتقول: أنا الكريمة في قومها الشريفة في أنسابها، وأحسن ما فيها أنها جاءت سراً، لم تعلم بها اليد اليمنى من اليسرى، فخذها يا مولاي واكشف عن نقابها وأمط عنها جلبابها، وقد كانت منك حرة وهي الآن في حيز المملكة، ومن السنة في مثلها أن تؤخذ بالناصية، ويدعى لها بالبركة، والسائر بها فلان وهو في الجهل بها حامل أسفار، وناقل لها من دار إلى دار، ولربما نطق لسان حالها الذي هو أفصح من نطق اللسان، وأذكرت بحاجة مرسلها وحاش فطانة الكريم من النسيان، وليس المطلوب إلا فضيلة من الجاه تسفر بين السائل والمسئول، وتنقل البعيد إلى درجة القريب والممنوع إلى درجة المبذول، فإذا فعل المولى ذلك كان له منة السفارة ومنة الإنعام، وإن سمع بأن سعياً واحداً فاز بشكرين اثنين ففي مثل هذا المقام ومن الناس من يقول: ليس على جانب السلطان ثقل في صنعه، وهل هاهنا إلا كلمات تقال والكلام ماعونٌ لا رخصة في منعه، ولم يدر أن ملاطفة الخطاب ضرب من الاحتيال، وأن نقل الخطوات فيه أثقل من نقل الجبال، وأن صاحب الحاجة يحظى بحلاوة النجاح والحاجب يلقى مرارة السؤال.
وهذا يقوله الخادم إيجاباً لإحسان المولى الذي هو إحسان شامل، ولا يعلمه إلا عالم بفضله ولا يجهله إلا جاهل، والله تعالى يجعل الحاجات مغدوقة ببابه، حتى لا تنفك في الدنيا من إمداد شكره وفي الآخرة من إمداد ثوابه، والسلام.
فتأمل أيها الناظر في كتابي هذا إلى ما اشتملت عليه هذه الرقعة من المعاني حتى تعلم كيف تضع يدك فيما تكتبه.
ومن ذلك رقعة أخرى كتبتها في هذا المعنى المتقدم ذكره، وأرسلت معها هدية من المسك، وهي الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان، ويدخل على القلوب من غير استئذان، وقد قيل: أخت السحر في ملاطفة قصدها، غير أنها لا تحتاج إلى نفثها ولا إلى عقدها، وما من قلب إلا وصورتها تجلي عليه في سرقة، ولولا شرف مكانها لما حللت للنبي صلى الله عليه وسلم مع تحريم الصدقة، ولها صفات غير هذه كريمة الأخطار حسنة لدى الأسماع والأبصار، ومن أحسنها أنها تستجد ودا، وتجعل قرباً ما كان بعداً. وتقول لنا الإحنة: يا نار كوني برداً، ولهذا قيل تهادوا تحابوا، ولا شك أنها وصلة بين المودات فإذا تواصل الناس تقاربوا، وقد أرسل الخادم منها شيئاً إذا كتمه ذاع، وإذا خزنه ضاع، وقد شبه به الجليس الصالح بعدد أسباب الانتفاع، ومما زاد مزية على مزيته أنه وشيم المولى توأمان، غير أن شيمته تنتمي إلى كرم محتدها وهو ينتمي إلى سرر الغزلان، فإذا ورد على مجلسه قيل: هذا عطر ورد على جونة عطار، وعرف له حق المشاركة فإن أدنى الشرك في الشيم جوار، وقد نطق الخبر النبوي بأنه أحد الثلاثة التي لا ترد على من أهداها، وإذا نظر إلى محصول بقائها وفائدتها وجد أطولها عمراً وأجداها، وهذا يحكم على المولى بقبول ما استرسل الخادم في إرساله، وإذا سأل غيره في قبول هديته كفاه نص الخبر مؤنة سؤاله والسلام.
وهذه الرقعة أحسن من التي قبلها، فمما اشتملت عليه من المعاني قولي: وما من قلب إلا وصورتها تجلى عليه في سرقة، ولولا شرف مكانها لما حللت للنبي صلى الله عليه وسلم مع تحريم الصدقة، وهذا المعنيان مستخرجان من خبرين نبويين، أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبريل عليه السلام ومعه سرقة من حرير» يعني حريرة بيضاء: «وفيها صورة عائشة» رضي الله عنها وقال: «هذه زوجتك في الدنيا والآخرة» والخبر الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرمت علي الصدقة وأحلت لي الهدية».
ومما اشتملت عليه أيضاً قولي وقد أرسل الخادم منها شيئاً إذا كتمه ذاع وإذا خزنه ضاع وهذه مغالطة حسنة، لأن المسك إذا كتم ذاعت رائحته، وإذا خزن ضاع: أي فاح، ويقال ضاع الشيء، إذا ذهب، فالمغالطة هاهنا في الجمع بين الضدين.
وكذلك قولي وقد شبه الجليس الصالح وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضاً، وذاك أنه قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح مثل حامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه عرفاً طيباً ومثل جليس السوء مثل نافخ الكير، إما أن يحرق ثوبك وإما أن تجد منه رائحةً كريهةً» ومما اشتملت عليه من المعاني أيضاً قولي إنه أحد الثلاثة التي لا ترد على من أهداها وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضاً، وهو قوله: «ثلاثةٌ لا ترد: الطيب والريحان والدهن» ومن ذلك رقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه، وهي رقعة من عاشق إلى معشوق وهي:
وإذا قيل من نحب تخطا ** ك لساني وأنت في القلب ذاكا

يا من لا أسميه، ولا أكنيه، وأذكر غيره وهو الذي أعنيه، لا تكن ممن أوتي ملكاً فلم ينظر في زواله، وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله، ولا تغتر بقول رأى الحسن إساءة للإساءة ماحياً، واعلم أن اللاحي: يقول كفى بالتذلل لاحياً، وكثيراً ما يزول العشق بجنايات الصدود، والزيادة في الحد نقصان في المحدود، وقد قيل: إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال، وهذه صدقة تقسم على أربابها، ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها، فهي مستمرة على تجدد الأيام، والمستحقون لها قسمٌ واحد ولا يقال: إنهم ثمانية أقسام وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب ورقبة العشق أشد أسراً من رقبة تتحرر بالكتاب، فأخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب، وإلا فتأت لطالب مني ومطالب، ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله، وأعده والمواعيد زاد لمثله، فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخراً ومرة ساحراً، ومن الأقوال السائرة أن الغر تجعله التجربة ماهراً، ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علماً، وتبصره وإن كان يقال أعمى وقد كذب القائل:
عرضن للذي تحب بحبٍ ** ثم دعه يروضه إبليس

فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعاً في الذي صنع، وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع، ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء، أو أنك مستثنىً في جملة من دخل في حكم الاستثناء، وأنا الآن له عائب، وعليه عاتب فأين نفثاته التي هي أخدع الحبائل، وأين قوله: لآتينهم عن الأيمان والشمائل، وأين جنوده المسترقة ما في السماء، التي تجري من بني آدم مجرى الدماء، وكل هذا قد بطل عندي خبره، كما بطل عندي أثره، فإن أدركته النخوة بأني استهزئ بتصديق أفعاله، فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله، وإلا فليخف رأسه، وليمح وسواسه، وإن كان له عرش على البحر فليقوض من عرشه وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه، وها أنا قد بعثت منه ما يجعل الحزم محلولاً، والود مبذولاً وما أقول إلا أني بعثت معشوقاً إلى معشوق، وكلاهما محله القلب بل القلب من حبهما مخلوق، وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله، وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله، وما وصف واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه، ومن أغرب أوصافه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيهاً سواه، لا جرم أنه إذا سفر في أمر تلطف في فتح أبوابه، وتناول وعره بسهله وبعده فبدله باقترابه، ولو بعثت غيره لخفت ألا يكون في سفارته صادقاً أو أنه كان يمضي سفيراً ويعود عاشقاً، فليس على الحسن أمانة وفي مثاله تعذر الخيانة، ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها، ورأت مالا يحتمله كاهل جهدها، ومن الذي يقوى درعه على تلك السهام، أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام وهذا الذي منعني أن أرسل إلا كيساً وكتاباً، فأحدهما يكون في السفارة والآخر على السر حجاباً والسلام إن شاء الله تعالى.
وفي هذه الرقعة من المعاني الغريبة ما أذكره، فالأول: ما ذكرته في قسم الصدقات وفك الرقاب، والثاني: ما ذكرته في وصف الدينار وهو أنه وجيه ذو وجهين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذو الوجهين لا يكون وجيهاً» وهذا معنى لم يسبقني أحد إليه، وقد وصف الحريري الدينار في مقامة من مقاماته ولم يظفر بهذا المعنى ولا جاء من الأوصاف التي ذكرها بمثله، والثالث أني بعثت معشوقاً إلى معشوق.
ومن ذلك ما كتبته وكان توفيت زوجة بعض الملوك وتوفي معها ولد لها وهو طفل صغير، وكان بينهما يومان، وتلك المرأة بنت ملك من الملوك أيضاً، فكتب إليه من الأطراف المجاورة يعزونه، وحضر عندي بعض الأدباء ممن يجب أن يكون كاتباً، وعرض علي نسخة ما كوتب به ذلك الملك في التعزية بزوجته وولدها، فوجدتها كتباً باردة غثة لا تعرب عن الحادثة، بل بينها وبينها بعد المشرقين ومن شرط الكتاب أن يكون الكتاب مضمناً فض المعنى المقصود، والتعازي مختلفة الأنحاء: فتعازي النساء غير تعازي الرجال، وهي من مستصعبات فن الكتابة والشعر، وتعازي الرجال أيضاً تختلف، فلا يعزى بالميت على فراشه كما يعزى بالميت قتيلاً ولا يعزى بالقتيل كما يعزى بالغريق، وهكذا يجري الحكم في المعاني جميعها، وهذا شيء لا يتنبه له إلا الراسخون في هذا الفن من أرباب النثر والنظم، وسألني ذلك الرجل عن هذه التعزية المشار إليها في المرأة وولدها الصغير، وقال: أحب أن أعلم كيف تكون، فأمليت عليه ثلاثة كتب كل كتاب يتضمن معنى لا يتضمنه الكتاب الآخر.
فمما جاء منها كتاب أنا ذاكره هاهنا وهو: أشجى التعازي ما أتبع فيه المفقود بمفقود، لا سيما إذا جمع بين سعد الأخبية وسعد السعود، وكل منهما يعظم حزناً كما يعظم مكاناً، وهذا يحسر عن الوجوه خمراً وهذا يلقي عن الرءوس تيجاناً، ولم يوفهما حقهما من بكي ولا من ندب، ولا من شعر ولا من كتب، وليت فدى أحدهما بصاحبه فعاش درهما المفدي بالذهب.
ولو كان خطباً واحداً خف كلمه ** ولكنه خطبٌ أعيد على خطب

وقد أصدر الخادم كتابه هذا ومن حقه أن يخرج في ثوب من الحداد، وأن يتعثر في أذيال كلمه والكتاب عنوان الفؤاد، وغاية ما يقول: أحسن الله عزاء المجلس السامي الملك الأجل السيد، على أن هذا الدعاء قد شهدت الحال بلحنه، وكيف يملك قلبه عزاء وقد أوثقه الهم في سجنه، وصار له ولداً دون ولده وخدناً دون خدنه، لكن يدعي له بامتداد البقاء، وأن تعامله الحوادث بعد هذه معاملة الإبقاء، ثم نتبع ذلك بطلب الجنة لمن نقلته المنايا عن أرائك الخدور، وجعلته في بطون القبور، ولمن فاجأت الأيام غصنه فقصفته، ولم يعش حتى عرف الدنيا ولا عرفته، فواهاً لهما وقد نزلا بمنزل عديم الإيناس، وإن كان مأهولاً بأكثر الناس، فهو القريب داراً، البعيد مزاراً، الذي حجب من اليأس بأمنع حجاب، وذهب عن الوجوه المنعمة لذل التراب، فمن كان مسعداً للمجلس فليأخذ بوله الجزع لا بعزيمة الاصطبار، وليقل: هذا حادث بان فيه تحامل الأقدار، وجرت همومه مجرى الخواطر من القلوب والرقاد من الأبصار، فالأسوة إلا فيه معدودة من الإحسان والسلوة إلا عنه داخلة في حيز الإمكان، والخادم أولى من لقي المجلس فيه بالإسعاد، وقام بما يجب من قضاء حق الوداد، وفعل ما يفعله القريب الحاضر وإن كان على شقة من البعاد، وقد أرسل من ينوب عنه في التعزية وإن لم يكف فيها المناب، وكما رخص العذر في قصر الصلاة فكذلك رخص في الاقتصار على الرسول والكتاب، وقد ورد لو حضر بنفسه فاستسقى لذلك الضريح سحاباً، وعقر عنده ركاباً، وسأل الله مغفرة وثواباً والسلام.
في هذا الكتاب معنى غريب، وهو قولي: سعد الأخبية كناية عن المرأة وسعد السعود كناية عن ولدها، لأن سعد الأخبية اسم منزلة من منازل القمر، والأخبية: جمع خباء، ومن شأن المرأة أن تحتجب في الأخبية، فهي سعدها، وهذا من المعاني الغريبة في مثل هذا المقصد، وقد اتفق سعد الأخبية وسعد السعود معاً، وهذا أيضاً غريب.
ومن ذلك أني كتبت كتاباً عن الملك الأفضل علي بن يوسف إلى أخيه الملك الظاهر غازي بن يوسف صاحب حلب، في أمر شخص كان أبوه صاحب مدينة تكريت، وتكريت هذه كان يتولاها قديماً الأمير أيوب جد الملك الأفضل والملك الظاهر، وأولد بها ولده صلاح الدين يوسف أباهما، وعلى عقب ولادته انتقل والده عن تكريت هو وعشيرته لأمر طرأ لهم، وجاء إلى الموصل ثم إلى الشام، وهناك سعدوا وكانت السعادة على يد صلاح الدين يوسف، فلما أردت أن أكتب هذا الكتاب علمت أنه مظنة المعاني المبتدعة، لأن الأمر المكتوب فيه غريب لم يقع مثله، فحينئذ كبتت هذا الكتاب، وهو: رفع الله شأن مولانا الملك الظاهر ولا زال الدهر فاخراً بمآثر سلطانه ناظماً مناقبه في جيده ومحامده في لسانه، ناسخاً بمساعي دولته ما تقدم من مساعي آل بويه وآل حمدانه، كتاب الخادم هذا واردٌ من يد الأمير شمس الدين ابن صاحب تكريت، وهي أول أرض مس جلد الوالد ترابها، ورقمت بها السعادة على جبينه كتابها، ومنها ظهر نور البيت الأيوبي مشرقاً، وأشام إذا خرج معرقاً، وكفاه بذلك وسيلة يكتنفها الإحسان والإرعاء ويكفي صاحبها أن يقول لا أسقي حتى يصدر الرعاء، وقد قرنها بوسيلة قصد الخدمة التي توجب لقاصدها ذماماً، وتقول له سلاماً إذا قال سلاماً، ثم ثلث هاتين الوسيلتين بكتاب الخادم أخذاً بالسنة النبوية في الدعاء وعدده، وتفاؤلاً بتثليث النجوم فيما يقصده المرء من سعادة مقصده، ولا قدح في كرم الكريم إذا استكثر طالبه من الأسباب فإن الله على كره قد استكثر إليه من أعمال الثواب، وكتاب الخادم على انفراده كافٍ لحامله، ومكثر من حقوق وسائله، وقد صدر مخاطباً عن فحوى ضميره، فإنما تحق السفارة إذا قعد بكل طالبٍ سعي سفيره، وهو مع ذلك خفيفة صفحته، وجيزة لمحته، وإذا وجد لدى مولانا معولاً، فليس عليه أن يرد مطولاً إذ التعويل على نجح مصدره، لا على كثرة أسطره.
فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكتاب، وأعطه حقه من التأمل، حتى ترى ما اشتمل عليه من المعاني، وانظر كيف ذكرت الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، أما المعنى الأول: فإنه يختص بذكر سعادة البيت الأيوبي ومنشئها وأنها ولدت بتكريت وهذا الرجل ينبغي أن يرعى بسببها، إذ كان أبوه صاحبها، وأما المعنى الثاني: فإنه قصد الخدمة الظاهرية، وهذا وسيلة ثانية توجب له ذماماً، وأما المعنى الثالث: فإنه حرمة الكتاب الصادر عن يده، ثم إني مثلت ذلك بالدعاء النبوي وبتثليث النجوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإنما مثلت ذلك بالدعاء لأمرين: أحدهما أنه موضع سؤال وضراعة، والآخر: أن الكتاب وسيلة ثالثة، والدعاء ثلاث مرار، وأما تثليث النجوم فإن التثليث سعد والتربيع نحس، وأحسن المعاني الثلاثة التي تضمنها هذا الكتاب هو الأول والثالث، وأما الثاني فإنه متداول، فتأمل ما أشرت إليه، وإذا شئت أن تكتب كتاباً فافعل كما فعلت في هذا الكتاب إن كان الأمر الذي تكتب فيه غريب الوقوع.
واعلم أنه قد يقع المعنى المبتدع في غير أمر غريب الوقوع، وذلك يكون قليلاً بالنسبة إلى الوقائع الغريبة التي هي مظنة المعاني المبتدعة.
ومن هذا الباب ما أوردته في جملة رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها: وهو: فإذا تناولوها في أيديهم قيل: أهلةٌ طالعةٌ من أكف أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: منايا مسوقة بأيدي أقدار، وتلك قسي وضعت للعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال، وإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة، وصنعت من نوعين غريبين فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حيوان ونبات، مؤلفة منهما على بعد الشتات، فهذا من سكان البحر وسواحله وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشد، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد، ولها نثار أحكم تصويرها وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الإرهاب، وكأنما صيغت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا قذفتها إلى الأطيار قيل ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد، ولا يرى حينئذ إلا قتيل ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رءوسها.
هذا الفصل يشتمل على معان غريبة، منها قولي:: إنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشتد، ولا تنطلق إلا حين تعطف وترد ومنها قولي ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد وكل هذا من المعاني التي تبتدع بالنظر إلى المقصد المكتوب فيه، فإن الكاتب إذا فكر فيما لديه وتأمله وكان قادراً على استخراج المعنى والمناسبة بينه وبين مقصده جاء هكذا كما تراه إلا أن القادر على ذلك من أقدره الله عليه، فما كان خاطر بحكيم، ولا كل من أوحى إليه بكليم، وفي الأقلام هاشم لمن ناوأه ومنها هشيم.
وسأنبه في هذا الموضع على طريق يسلك إلى شيء من المعاني المخترعة، وهو ما استخرجته وانفردت باستخراجه دون غيري، فإن المعاني المخترعة لم يتكلم فيها أحد بالإشارة إلى طريق يسلك فيها، لأن ذلك مما لا يمكن، ومن هاهنا أضرب علماء البيان عنه، ولم يتكلموا فيه كما تكلموا في غيره، وكيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد أو يفتح إليها طريق تسلك وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعليم؟ ولهذا اختص بها بعض الناثرين والناظمين دون بعض، والذي يخص بها يكون فذا واحداً يوجد في الزمن المتطاول، ولما مارست أنا هذا الفن أعني فن الكتابة وقلبته ظهراً لبطن وفتشت عن دفائنه وخباياه، وأكثرت من تحصيل مواده والأسباب الموصلة إلى الغاية منه، سنح لي في شيء من المعاني المخترعة طريقٌ سلكته، وهو يستخرج من كتاب الله تعالى وأحاديث نبيه صلوات الله عليه وسلامه، وقد تقدم لي منه أمثلة في هذا الكتاب وذلك أنه ترد الآية من كتاب الله تعالى أو الحديث النبوي والمراد بهما معنى من المعاني، فآخذ أنا ذلك وأنقله إلى معنى آخر، فيصير مخترعاً لي.
وسأورد هاهنا نبذة يسيرة يعلم منها كيف فعلت حتى يسلك إليها في الطريق الذي سلكته.
فمن ذلك قصة أصحاب الكهف والرقيم، فإني أخذت ذلك ونقلته إلى الإحسان والشكر، ألا ترى أن الإحسان يستعار له كهف وكنف وظل، وأشباه ذلك، والشكر كلمات تقال في التنويه بذكر المحسن وإحسانه، والرقيم هو الكتاب المكتوب فهو والشكر متماثلان، والذي أتيت به قد أوردته وهو فصل من كتاب إلى بعض المنعمين.
الخادم يشكر إحسان المولى الذي ظل عنده مقيماً وغدا بمطالبه زعيماً، وأصبح بتواليه إليه مغرماً كما أصبح له غريماً، ولما تمثل في الاشتمال عليه كهفاً صار شكره فيه رقيماً.
فانظر كيف فعلت فيه في هذا الموضع لتعلم أني قد فتحت لك فيه طريقاً تسلكه.
وأما الحديث النبوي فإني أخذت قصة قتلى بدر كأبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم ونقلتها إلى القلم، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القليب الذي ألقاهم فيه وناداهم بأسمائهم فقال: يا عتبة، يا شيبة، يا أبا جهل، يا فلان يا فلان، والحديث مشهور فلا حاجة إلى استقصائه، والذي أتيت به في وصف القلم هو أني قلت: ولقد مرح القلم في يدي وحق له أن يمرح، وأبدع فيما أتى به وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح، ومن شأنه أن يستقل على أعواد المنبر فلا ينتهي من خطبتها إلى فصلها، ويقف على جانب القليب إلا أنه لا ينادي من المعاني أبا جهلها.
فالدواة قليبٌ، والقلم يقف عليه، والمعاني التي ينشئها من باب العلم، لا من باب الجهل فتأمل هذه الكلمات التي ذكرتها فإنها لطيفة جداً، وهي مخترعة لي.
وهذا القدر كافٍ في طريق التعليم، فليحذ حذوه إن أمكن والله الموفق للصواب.
وأما الضرب الآخر من المعاني وهو الذي يحتذي فيه على مثال سابق، ومنهج مطروق فذلك جل ما يستعمله أرباب هذه الصناعة ولذلك قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم

إلا أنه لا ينبغي أن يرسخ هذا القول في الأذهان لئلا يؤيس من الترقي إلى درجة الاختراع، بل يعول على القول المطمع في ذلك، وهو قول أبي تمام:
لا زلت من شكري في حلةٍ ** لابسها ذو سلبٍ فاخر

يقول من تقرع أسماعه ** كم ترك الأول للآخر

وعلى الحقيقة فإن في زوايا الأفكار خبايا، وفي أبكار الخواطر سبايا، لكن قد تقاصرت الهمم ونكصت العزائم، وصار قصارى الآخر أن يتبع الأول، وليته تبعه ولم يقصر عنه تقصيراً فاحشاً.
ووقفت على كتاب يقال له مقدمة ابن أفلح البغدادي قد قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة، وللعراقيين بها عناية وهم واصفون لها، ومكبون عليها، ولما تأملتها وجدتها قشوراً لا لب تحتها، لأن غاية ما عند الرجل أن يقول: وأما الفصاحة فإنها كقول النابغة مثلاً، أو كقول الأعشى، أو غيرهما، ثم يذكر بيتاً من الشعر أو أبياتاً، وما بهذا تعرف حقيقة الفصاحة حتى إذا وردت في كلامٍ عرفنا أنه فصيح بما عرفنا من حقيقتها الموجودة فيها، وكذلك يقول في غير الفصاحة.
ومن أعجب ما وجدته في كتاب أنه قال: أما المعاني المبتدعة فليس للعرب منها شيء، وإنما اختص بها المحدثون، ثم ذكر للمحدثين معاني، وقال: هذا المعنى لفلان وهو غريب، وهذا القول لفلان، وتلك الأقوال التي خص قائليها بأنهم ابتدعوها قد سبقوا إليها، فإما أن يكون غير عارف بالمعنى الغريب، وإما أنه لم يقف على أقوال الناظمين والناثرين ولا تبحر فيها حتى عرف ما قاله المتقدم، مما قاله المتأخر، وأما قوله إنه ليس للعرب معنى مبتدع وإنما هو للمحدثين فيا ليت شعري من السابق إلى المعاني؟ من تقدم زمانه أم من تأخر زمانه.
وأنا أورد هاهنا ما يستدل به على بطلان ما ذكره، وذاك أنه قد ورد من المعاني أن صور المنازل تمثلت في القلوب فإذا عفت آثارها لم تعف صورها من القلوب، وأول من أتى بذلك العرب، فقال الحرث بن خالد من أبيات الحماسة:
إني وما نحروا غداة منىً ** عند الجمار يؤدها العقل

لو بدلت أعلى مساكنها ** سفلاً وأصبح سفلها يعلو

لعرفت مغناها بما ضمنت ** مني الضلوع لأهلها قبل

ثم جاء المحدثون من بعده فانسحبوا على ذيله وحذوا حذوه، فقال أبو تمام:
وقفت وأحشائي منازل للأسى ** به وهو قفرٌ قد تعفت منازله

وقال البحتري:
عفت الرسوم وما عفت أحشاؤه ** من عهد شوقٍ ما تحول فتذهب

وقال المتنبي:
لك يا منازل في القلوب منازل ** أقفرت أنت وهن منك أواهل

وهذا المعنى قد تداوله الشعراء، حتى إنه ما من شاعر إلا ويأتي به في شعره.
وكذلك ورد لبعضهم من شعراء الحماسة:
أناخ اللؤم وسط بني رياح ** مطيته وأقسم لا يريم

كذلك كل ذي سفرٍ إذا ما ** تناهى عند غايته يقيم

وهذان البيتان من أبيات المعاني المبتدعة، وعلى أثرهما مشى الشعراء.
وكذلك ورد لبعضهم في شعر الحماسة:
تركت ضأني تود الذئب راعيها ** وأنها لا تراني آخر الأبد

الذئب يطرقها في الدهر واحدةً ** وكل يومٍ تراني مديةٌ بيدي

وكذلك ورد قول الآخر:
قومٌ إذا ما جنى جانيهم أمنوا ** للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا

وكم للعرب من هذه المعاني التي سبقوا إليها.
ومن أدل الدليل على فساد ما ذهب إليه من أن المحدثين هم المختصون بابتداع المعاني أو أول من بكى على الديار في شعره رجل يقال له ابن حزام، وكان هو المبتدي لهذا المعنى أولاً، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره فقال:
عوجاً على الطلل المحيل لعلنا ** نبكي الديار كما بكى ابن حزام

وقد أجمع نقلة الأشعار أن لامرئ القيس في صفات الفرس أشياء كثيرة لم يسبق إليها ولا قيلت من قبله.
ويكفي من هذا كله ما قدمت القول فيه، وهو أن العرب السابقون بالشعر، وزمانهم هو الأول، فكيف يقال: إن المتأخرين هم السابقون إلى المعاني؟ وفي هذه الأمثلة التي أوردتها كفاية في نقض ما ذكره، ولو قال: إن المحدثين أكثر ابتداعاً للمعاني، وألطف مأخذاً وأدق نظراً، لكان قوله صواباً لأن المحدثين عظم الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون وقد قيل إن اللها تفتح اللها، وهو كذلك فإن نفاق السوق جلاب.
وقد رأيت جماعة من متخلقي هذه الصناعة يجعلون همهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها، وإذا أتى أحده بلفظ مسجوع على أي وجه كان من الغثاثة والبرد يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم، ولا يشك في أنه صار كاتباً مفلقاً، وإذا نظر إلى كتاب زماننا وجدوا كذلك، فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار، ولو أنه لا يتطاول إليه إلا أهله لبان الفاضل من الناقص، على أنه كالرمح الذي إذا اعتقله حامله بين الصفين بان به المقدم من الناكص، وقد أصبح اليوم في يد قومٍ هم أحوج من صبيان الكاتب إلى التعليم، وقد قيل: إن الجهل بالجهل داء لا ينتهي إليه سقم السقيم، وهؤلاء لا ذنب لهم لأنهم لو لم يستخدموا في الدول ويستكتبوا، وإلا ما ظهرت جهالتهم، وفي أمثال العوام لا تعر الأحمق شيئاً فيظنه له، وكذلك يجري الأمر مع هؤلاء فإنهم استكتبوا في الدول فظنوا أن الكتابة قد صارت لهم بأمر حق واجب.
ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طعاماً في هذا الفن، مدعياً له على خلوه عن تحصيل آلاته وأسبابه ولا أرى أحداً يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه، هذا، وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى يتتهي إليه، ويحتوي عليه، فسبحان الله فسبحان الله هل يدعي هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء فكيف يجيء إلى فن الكتاب وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل به؟ ومما رأيته من المدعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور، وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة التي لا حاصل وراءها، أنهم إذا أنكرت هذه الحال عليهم، وقيل لهم: إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط، إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة، وإنما هو أمر وراء هذا، وله شروط متعددة، فإذا سمعوا ذلك أنكروه، لخلوهم عن معرفته ثم لو عرفوه وأتوا به على الوجه الحسن من اختيار الألفاظ المسجوعة لاحتاجوا إلى شرط آخر قد نبهت عليه في باب السجع، وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني يقولون لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة، فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءكم بها، فلم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه حتى ادعوا الأسوة بالعرب فيه، فصارت جهالتهم جهالتين.
ولنذكر هاهنا في الرد عليهم ما إذا تأمله الناظر في كتابنا عرف منه ما يؤنقه، ويذهب به الاستحسان كل مذهب فنقول: اعلم أن العرب كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدراً في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها لأنها لما كانت عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعاً لذ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعاً لم يأنس به أنسه في حالة السجع فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيه، وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذا ذاك إنما هي بألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، ونظير ذلك إبراز صورة الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوه من حسنة بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه.
فإن قيل: إنا نرى من ألفاظ العرب ما قد حسنوه وزخرفوه، ولسنا نرى تحته مع ذلك معنى شريفاً، فمما جاء منه قول بعضهم:
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ** ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** وسالت بأعناق المطي الأباطح

ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ وصقالته، وتدبيج أجزائه، ومعناه مع ذلك ليس مدانياً له ولا مقارباً، فإنه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل، ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني.
فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر فيه، ولا أرى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته وهو أن في قول هذا الشاعر كل حاجة مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيد غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن حوائج منىً أشياء كثيرة: فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له ومعقود الكون به، فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت ومسح بالأركان من هو ماسح أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجارٍ في القرية من الله مجراه: أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح، وأما البيت الثاني: فإن فيه أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي هذا ما نذكره لتعجب به وبمن عجب منه ووضع من معناه، وذلك أنه لو قال أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك لكان فيه ما يكبره أهل النسيب، فإنه قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الإلفين والجذل بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول بعضهم:
وحديثها يا سعد عنها فزدتني ** جنوناً فزدني من حديثك يا سعد

وقول الآخر:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ** لم يجن قتل المسلم المتحرز

فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله أخذنا بأطراف الأحاديث فإن ذلك وحياً خفيا، ورمزاً حلواً، ألا ترى أنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح، وذلك أحلى وأطيب، وأغزل وأنسب، من أن يكون كشفاً ومصارحة وجهراً، وإن كان الأمر كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب ولذ مستمعه نعم في قول الشاعر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح

من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به وسأنبه على ذلك فأقول إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسن لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى، فالعرب إنما تحسن ألفاظها وتزخرفها عنايةً منها بالمعاني التي تحتها، فالألفاظ إذاً خدم المعاني والمخدوم لا شك أشرف من الخادم فاعرف ذلك وقس عليه.